فصل: تفسير الآيات (112- 115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (111):

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)}
قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم، لا أنه تكون لهم الغلبة، عن الحسن وقتادة. فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا، فوقع الأذى موقع المصدر. فالآية وعد من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.
وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة، لكن يؤذونكم بما يسمعونكم. قال مقاتل: إن رءوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لاسلامهم، فأنزل الله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} يعني باللسان، وتم الكلام. ثم قال: {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} يعني منهزمين، وتم الكلام. {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} مستأنف، فلذلك ثبتت فيه النون.
وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام، لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره.

.تفسير الآيات (112- 115):

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}
قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يعني اليهود. {أَيْنَما ثُقِفُوا} أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم. {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} استثناء منقطع ليس من الأول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله. {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم.
وفي الكلام اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف، قاله الفراء. {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي رجعوا. وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة. ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} وقد مضى في البقرة مستوفى. ثم أخبر فقال: {لَيْسُوا سَواءً} وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء، عن ابن مسعود.
وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء.
وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: «إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم» قال: وأنزلت هذه الآية {لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} وروى ابن وهب مثله.
وقال ابن عباس: قول الله عز وجل: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} من آمن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}. إلى قوله: {وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة. وأنشد:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع

وقيل: في الكلام حذف، والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب:
عصاني إليها القلب إني لأمره ** مطيع فما أدري أرشد طلابها

أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء: {أُمَّةٌ} رفع ب {سَواءً}، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع {أُمَّةٌ} ب {سَواءً} فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه، لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه.
وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. و{آناءَ اللَّيْلِ} ساعاته. واحدها إنى وأنى وإني، وهو منصوب على الظرف. و{يَسْجُدُونَ} يصلون، عن الفراء والزجاج، لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي يصلون.
وفي الفرقان: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ} [الفرقان: 60] وفي النجم {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62].
وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة. وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود، فعبده الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله، ألا ترى لما ذكر قيامهم قال: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي مع القيام أيضا. الثوري: هي الصلاة بين العشاءين.
وقيل: هي في قيام الليل. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل كمن هو قائم وساجد أناء الليل. {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} قيل: هو عموم.
وقيل: يراد به الامر بأتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته. {وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم.
وقيل: يبادرون بالعمل قبل الفوت. {وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة. {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما، إخبارا عن الامة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبى عبيد. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء. ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه.

.تفسير الآية رقم (116):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} اسم إن، والخبر {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}. قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم. {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} ابتداء وخبر، وكذا و{هُمْ فِيها خالِدُونَ}. وقد تقدم جميع هذا.

.تفسير الآية رقم (117):

{مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}
قوله تعالى: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ}
{ما} تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه. ومعنى: {مَثَلِ رِيحٍ} كمثل مهب ريح. قال ابن عباس: والصر البرد الشديد. قيل: أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة. الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة.
وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر. ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته ونفعه. قال الله تعالى: {ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بذلكَ- {لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى.
وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى، لوضعهم الشيء في غير موضعه، حكاه المهدوي.

.تفسير الآية رقم (118):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)}
فيه ست مسائل:
الأولى: أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} [آل عمران: 100]. والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر:
أولئك خلصائي نعم وبطانتي ** وهم عيبتي من دون كل قريب

الثانية: نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الاهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه، قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه. وروي عن أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} قال: «هم الخوارج».
وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لابي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.
قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى».
وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا». فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} أي من سواكم. قال الفراء: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ} أي سوى ذلك.
وقيل: {مِنْ دُونِكُمْ} يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة ل {بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}. يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وألوت ألوا قصرت، قال امرؤ القيس:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

والخبال: الخبل. والخبل: الفساد، وقد يكون ذلك في الافعال والأبدان والعقول.
وفي الحديث: «من أصيب بدم أو خبل» أي جرح يفسد العضو. والخبل: فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده. قال أوس:
أبني لبينى لستم بيد ** إلا يدا مخبولة العضد

أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء:
نظر ابن سعد نظرة وبت بها ** كانت لصحبك والمطي خبالا

أي فساد. وانتصب {خَبالًا} بالمفعول الثاني، لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما قالوا: أوجعته ضربا: و{ما} في قوله: {وَدُّوا ما عَنِتُّمْ} مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في البقرة معناه.
الرابعة: قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح، يقال: شحي الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا، فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء.
وفي التنزيل {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] الآية.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام». فذكر الشحو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم.
الخامسة: وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك.
وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر.
السادسة: قوله تعالى: {وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. وقرأ عبد الله بن مسعود: {قد بدأ البغضاء} بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض.